الأكل في الحب


 (1)

 استيقظت مبكرا هذه المرة على  صوت " الست" قادماً من الراديو وهي تصبح "يا صباح الخير  ياللي معانا.. الكروان غنى وصحانا" أفضل طبطبة صباحية يمكن أن تحظى بها لتبدأ يوما جديدا وهي تكمل "يا هناه اللى يفوق من نومه قاصد ربه وناسي همومه".

أول معرفتي بفقرات الراديو الصباحية كانت في بيت جدتي، يبدأ اليوم مع أذان الفجر لتصلي وتفتح الراديو على محطة الشرق الأوسط تؤنسها، جذبتني أبلة فضيلة بحنانها، كانت بداية متابعتي للراديو صباحاً  بجانب الحديث مع جدتي، أتحدث عن ما يشغلني ويقطع من تفكيري وأنا طفل "ليه القمر بيجي بليل والشمس الصبح؟"، عن أحلامي وعن أشياء هي لا تهتم لسماعها ولكن تنصت لي بكل اهتمام لأنها تحبني، دائماً ما تقول لي "أعز الولِد.. ولِد الولِد" تشعرني دائماً بأني أفضل من على الأرض، تحكي عيناها مدى خوفها علي كل مرة أودعها، تفضحها ضحكتها عندما تراني، أنسى كل ضجيج  بالخارج عندما احتضنها.

تجد جدتي نفسها وروحها في المطبخ، تقضي فيه أغلب فترات يومها، لذلك ليس غريباً أن تكون أكبر مساحة حجرة في بيتها للمطبخ ويكون من المألوف لنا كميات الطعام الكبيرة التي تطبخها لنا جميعاً  وتوزع منها على جيرانها وأحبابها حتى أني اكتشفت يوماً أنها تطبخ أكلة يحبها بائع "البلاستيك" بالسوق لتُهديها له، فأجد بداخلي حب لكل الأشياء التي تصنعها جدتي.

أعشق البيوت التي تضع راديو في المطبخ، فهذا يساعد أن تخرج منها الأشياء ومعها بعض الونس والدفء، مثل العدس الأقرب إلى قلبي و الوصف الأمثل للونس.. ليس فقط إن "اللي ميعرفش يقول عدس" ولكن من أراد حنيناً كحضن جدتي وطعماً أقرب لصوت أبلة فضيلة فأسرع طريقة هو هذا المشروب الأصفر الدافئ.

يحتفظ العدس بأسرارك ويشاركك لياليك، كأسم جدتي "نجية" وهو فيما معناه الاحتفاظ بسر ما، فالعدسُ نجية الفقراء باعتباره الوجبة الأرخص على الإطلاق والصديق الوفي الوحيد الذي يطبطب عليك في وحدتك ويمكن أن يؤنسك بجانبه ليمون، أو تضع عليه بعض الشعرية.. أنا أحبه بالاثنين معاً بجانب بعض البصل الأخضر مثلما أكلته في بيت جدتي.

(2)

منذ التاسعة من عمري وأنا أسمع من أهلي "أنت دلوقتي بقيت كبير" ولا أفهم المعنى بأني أصبحت كبيراً الآن أو ما المعيار الذي يقيسون به هذه الكلمة، هل هو تمهيداً لمنعي من اللعب مع أطفال منطقتي كل يوم بالكرة أم الالتزام بواجبات ومسئوليات أخرى غير الذهاب للمدرسة أو يمكن أن أخرج من المدرسة وأذهب للعمل مثل والدي؟ كلها أسئلة كانت تجول في رأسي عند سماعي لجملة أنت كبير.

في امتحانات الابتدائية أكثر ما أتذكره وقتها هو أكلة الكشري مع أصدقائي بعد كل امتحان كانت تفصيلة مقدسة بعد الامتحان كتفاصيل كثيرة عشتها في هذا السن الذي أشعر فيه بأول كل شئ كالحب والصداقة وطبعاً "التحوير"، لم تخل فترة ابتدائي من بعض الكذب الأبيض ففي مرة ذهبت مع صديقي إلى ميدان التحرير دون أن أبلغ أحداً "حتى الآن" قضينا يوماً فارغاً لا نعرف ماذا علينا فعله أو لماذا جئنا إلى هنا كل ما تعرفنا عليه في هذه الليلة هو الكشري عندما رأينا محل بوسط البلد لنأكل لديه ونذهب بعدها إلى بيتنا وبداخلنا شعور بالإنجاز وبقوة صداقتنا أن نتقاسم سراً صغيراً كهذا "صديقي الذي أعرفه حتى الآن".

الكشري أفضل وجبة عائلية، تتجمع فيه أصناف لا تتقابل تقريبا مع بعضها بهذا الترتيب سوى في طبق الكشري مثل العائلة تتجمع على الطاولة لتناول الطعام معاً، تعلمت الكثير من جلسة الطعام وأنا صغير مثل "كل من غير صوت" ، "كل من اللي قدامك" أو "متبصش لطبق غيرك" كلها عن الإيثار والرضا والحب للغير، وأن نحمد الله ونشكر من صنع لنا طبقنا قبل المغادرة.

لم أشعر حتى الآن أني "خلاص كبرت" ولا أعرف ما المرحلة التي يقف عندها الشخص ليقول أنا أصبحت كبيراً فمثلاً "يموت المعلم وهو بيتعلم" و"اتعب في الثانوية وارتاح بعدين" مرت الثانوية ولم ارتح بعد أو أكبر، يبدو أنه امتحان كبير لا ينتهي ولكن ما يهون علي هي وجبة الكشري بعد كل امتحان صغير.

الكشري أكلة شكلها مصري، مزيج لا تستطيع إبعاده عن ثقافتنا و يشبهنا كثيرا في طباعنا وتصرفاتنا اليومية رغم أنه من أصول هندية وانتقلت إلى مصر مع التعامل والتجارة قبل أن نضع عليها "التاتش المصري" وبعد أن كان اسمها "كيتشدي" أصبحت وجبة أساسية في البيوت المصرية واسمها "الكشري" وأضافوا إليها الصلصة الحمرا وبعض من "الدقة" وهي مزيج من الثوم المهروس والخل.

(3)

وصلنا للعصر وأمي لا تزال في مطبخها، لم يُميز أنفي بعدُ ما تحضره من طعام لنا اليوم ولكن بدأت معدتي بالتلاعب بأصواتها كتقسيم فرقة أم كلثوم قبل غنائها وبدأت أتذكر كيف كنت أنظر بالأمس إلى "المكرونة البشاميل" بعد أن ملأت معدتي  ولا أستطيع أن أضعها في فمي، تأتي الأشياء الصحيحة في أوقات خاطئة، على ساعتي علينا الانتظار ثلاث ساعات على أذان المغرب للإفطار ، يعتبر هذا أول رمضان أستطيع فيه الصيام من بداية الفجر وحتى أذان المغرب، شعرت بأني قادر على التحكم في نفسي "بعيداً عن ما كنت أفعله عند الوضوء" ولكن في النهاية فعلت المطلوب مني، أخذتُ جهاز تحكم التلفاز لأجد برنامج "عالم سمسم" فتركته، من كان من جيل التسعينات يتذكر جيداً ما هو شعور من يشاهد عالم سمسم هذا الشارع الغريب الذي يملؤه الحب والضحك وبالطبع عم جرجس وخالة خيرية، كيف كنت مقتنعا بأن نمنم هو الشخصية الأصغر سناً على الرغم من حجمه الأشبه بمدخنة "الكبابجي" أو أن فلفل في حالته الطبيعية ولا يجب أن يذهب لطبيب ليعالج حالة التشنجات والرعشة الدائمة، وأن خوخة كانت ولا تزال لديها 4 سنين رغم اني أكبر.

تبقى ساعة واحدة على الإفطار فطلبت مني أمي أن أشتري "عرقسوس" فذهبت لأشتري هذا المشروب الأقرب لعذاب النفس في رأيي، قبل الإفطار تكون القاهرة هادئة قليلاً مع بعض السرعة في حركات العربات لتصل إلى بيتها قبل الآذان ولكن حالة الهدوء العامة قبل آذان المغرب لا تتكرر كثيراً في القاهرة إلا في رمضان، القاهرة مدينة يملؤها الضوضاء والمباني الحمراء والكثير من أصوات "التوك توك" لتتزين في رمضان بكل مساوئها بالفوانيس والإضاءات تملأ الشوارع، كمن يهتم بمدخل بيته وينسى أن ينظف باقي البيت، بعد شراء العرقسوس وقفت على باب عمارتنا لتبدأ أنفي في التقاط أنفاس كل ما في المطبخ، أساتذة من مدارس مختلفة في تقدير "اللقمة الحلوة" حتى وصلت لباب شقتنا في الدور الثالث، أنتظر أعرف هذه الرائحة!

الملوخية أو الشلولو عند القدماء المصريين، كانت أمي تستعد لـ"طشة" الملوخية بشهقة، ما أصول الشهقة أو ما فائدتها؟ لا يهم في أكلة كانت تسمى الملوكية لمنع الحاكم بأمر الله أكلها لمعرفته أهميتها على الصحة ولا يجوز أن يستفاد منها عامة الشعب، حتى توفى وحرفها المصريون إلى الملوخية، شعب طيب وإلا ما سميت ببلاد طيبة.


تعليقات

المشاركات الشائعة