بدون سقف، بدون قانون : تعبير عن روح حرة أم روح مفقودة؟
كنت أعلم القليل عن المخرجة الفرنسية الراحلة "أنيس فاردا" حتى شاهدت فيلمها "بدون سقف ، بدون قانون" داخل نادي سينما الجيزويت مع الأستاذ حسن شعراوي منذ سنتين، عادتاً ما أترك نادي السينما يفاجئني كل سبت بفيلم جديد يجعلني أبحث وراءه مثلما فعلت ليلتها، سحرني الفيلم بكل تفاصيله، كانت علامات الاستفهام في مخيلتي تتزايد كلما مرت أحداث الفيلم، كيف يمكن أن تكون "فاردا" بهذا الوعي لطبيعة الحكي وأستخدامها لأحداث الفيلم بطريقة مبهرة لتوصيل فكرتها، تصوير كل مشهد وكأنها صورة فوتوغرافية لا تخلو من المناهضة والنثوية وبالطبع الجمال حتى بداخل القبح.
جعلني هذا الفيلم أبحث عن كل أفلامها، وأقع في غرام فنها وبالطبع جمالها الداخلي والخارجي، رؤيتها لقضية معينة كالفيلم الوثائقي "The Gleaners and I" تحدثها عن أعمالها وشواطئها والزمن الذي دار بها داخل مشاهد أفلامها دون أن تدري في فيلم "Les Plages d'Agnès"
الحقيقة كما هي
في فيلم "Sans toit ni loi" لا نعرف الكثير عن البطلة سوى أنها كانت تعمل سكرتيرة وتكره الرؤساء قبل أن تتحول إلى مشردة "Homeless" وهو أمر كان منتشر وقتها في فرنسا، تتجول في جنوب فرنسا في الشتاء، تجبرنا أنيس فاردا إلى التعامل مع الأمور والمخاطر التي تواجهها البطلة دون تجميل في الواقع، نتمشى معها في جولاتها ونعيش حالة التيه الموجودة داخل عينيها الواسعتين، تأخذنا كاميرا "أنيس" مراراً وتكراراً على وجه البطلة الغامض والمريب في بعض الأحيان وجسمها الغير نظيف وحتى أظافرها المتسخة والهالات السوداء تحت عينيها والتي تزداد بشدة مع القرب للنهاية المحتومة التي نعرفها جميعاً من أول مشهد في الفيلم وهو وفاتها في ظروف غامضة في حفرة كبيرة وحيدة ومعزولة كما كانت دائماً!
"في أفلامي كنت دائماً أرغب في جعل الناس ينظرون بعمق .. أنا لا أرغب في إظهار الأشياء واضحة ، ولكن أرغب في إعطاء الناس الرغبة في رؤيتها"
-أنيس فاردا
وجهاً لوجه
دائماً ما تجعلك "فاردا" في مواجهة مع شئ ما، مواجهة البطلة مع الطبيعة الباهتة والغابات الواسعة، مواجهتها للشخصيات التي تتفاعل معهم من أول راعي الغنم والذي درس الهندسة ولكن قرر أن يبقى مع القطيع والزراعة، وفي مواجهة الخادمة التي سمحت لها بالجلوس في البيت، أو التي اصطحبها في رحلة بسيارتها، تواجه البطلة "Mona" نفسها في كل مرة لكي تشعرها أنها غير حبيسة فيظهر لنا الفيلم كرهها لفكرة السجن كما هو موضح في حوارها مع السيدة داخل السيارة والتي عرضت عليها أن تبقى بداخلها لتنام بدلاً من النوم على الطريق لترد سريعاً دون تفكير: هل تودين حبسي هنا؟
هذا ما تفكر فيه دائماً بطلتنا، ترى أنها يجب أن تعيش حياة حرة من دون مسؤوليات ولا أعمال، من دون رئيس،وتترك "فاردا" أبطال الفيلم أنفسهم في مواجهة الكاميرا وهم يقولون أنطباعهم عن بطلتنا، تقول إحدى الشخصيات عن "Mona": "إنها حرة"، يقول آخر: "إنها تخيفني لأنها تبعد عني" وتقول المخرجة عن طريق التعليق الصوتي في أول الفيلم: "أنا أعرف القليل عنها بنفسي ، لكن يبدو لي أنها أتت من البحر."
حتى تجعلنا في مواجهة أنفسنا، كلاً منا يتمنى أن يكون حراً ليوماً واحداً دون تحمل عناء أي شئ بداخل عالم تحكمه قواعد وأسس أخرى للعيش بداخله، تبدأ بالبيت وهو ما ترفضه بطلتنا وبالتالي تعيش في الخارج، على شاطئ مع برد قارص، أو مبنى مهجور، حديقة شتوية تقيم الجنس مع صاحبها ليتركها بداخلها. كما ترفض فكرة العمل، فبعد أن عرض عليها الراعي أن تأخذ قطعة أرض لتزرعها بالبطاطا كما تحب وهو سيقوم بمساعدتها.. ترفض وتنتقل للعيش مع عامل تونسي وتعمل في تلقيم الأشجار حتى تسمع من سيدة أنها ليست مهنة للسيدات، ليكون رد فعلها الرفض وتظل تعمل حتى تنزف يداها، لا تعتذر أبداً طوال الفيلم ولا تشكر من يساعدها كالقطط.. تطلب، تأخذ ثم ترحل.
أثناء رحلة "Mona" بداخل سيارة إحدى السيدات المهتمات بالبيئة تحدثها عن نوع معين من الأشجار بدأت الفطريات في الوصول أليه بشكل مكثف وفوضوي ولو ظل هذا الوضع بنفس الوتيرة ستنقرض هذه الأشجار بعد 30 عاماً على الأقل، حال فرنسا في هذا التوقيت مشابه نوعاً ما، تعاني فرنسا بلد الفن والجمال من وجود مشردين ولاجئين بلا مأوى بداخلها، وبعكس البلاد الشرقية تتعامل فرنسا مع هذا النوع من المواطنين بطريقة قاسية تكاد تكون طريقة إجرامية في حقهم ولكن رغم ذلك هذه الفئة تزداد في المجتمع بشدة وهو ما تراه "فاردا" يمثل خطراً كبيرة على موطنها، ويمكن أن يؤدي إلى موتها كما تفعل الفطريات بالأشجار. الشكل الرمزي المقدم هنا ليس فقط لعرض قناعة المخرجة بشكل غير مباشر ولكن كعادة فاردا تصل للمعنى بطريقة عاطفية أقرب إلى الواقع وأفضل في تخيلها وتحليل مدى تأثيرها، دون الأنخراط في تفاصيل أو معاقبة أياً من الأطراف على حساب الأخر، فلن ترى أنها كانت متحيزة ضد البطلة طوال الفيلم ولكنها تنقل ما تراه، وما تريدنا رؤيته.
عاصفة لا يسبقها هدوء
بالقرب إلى النهاية نجد البطلة في حالة غير التي كانت عليها منذ بداية الفيلم، البداية كانت بأختيارها برغم الفرص الموجودة دائماً للاستقرار ولكنها كانت تقرر أن تتنقل من مكان لأخر ولكنها ومع الوصول لحالة من الضعف تقع في حب رجل من الوهلة الأولى نرى أنه يستغلها، وتقترب من مجموعة من المدمنين حتى تتمكن من أستخدام مخبأهم، لكنهم يستخدمونها للتسول لتصبح منهم وتتصرف مثلهم، ولم يتبقى معها سوى بطانية صغيرة لا تفيد بشئ في شتاء فرنسي، باتت وكأنها ضعيفة وبلا مأوى وهذه المرة إجبارياً.
بالقرب إلى النهاية نجد البطلة في حالة غير التي كانت عليها منذ بداية الفيلم، البداية كانت بأختيارها برغم الفرص الموجودة دائماً للاستقرار ولكنها كانت تقرر أن تتنقل من مكان لأخر ولكنها ومع الوصول لحالة من الضعف تقع في حب رجل من الوهلة الأولى نرى أنه يستغلها، وتقترب من مجموعة من المدمنين حتى تتمكن من أستخدام مخبأهم، لكنهم يستخدمونها للتسول لتصبح منهم وتتصرف مثلهم، ولم يتبقى معها سوى بطانية صغيرة لا تفيد بشئ في شتاء فرنسي، باتت وكأنها ضعيفة وبلا مأوى وهذه المرة إجبارياً.
ينتهي الفيلم دون تقديم عبر أو حكمة في النهاية، لنصل لنهاية حزينة عرفناها من البداية لامرأة كانت تستحق أفضل مما هي عليه، أو يمكن لا تستحق شيئاً على الأطلاق!
تعليقات
إرسال تعليق